رحلة في مسيرة حمد الطيار


الطيار يستلهم أنغامه من عصافير سدرة الجيران فيعزفها على غطاء (مكينة) خياطة..!!
* الدنيا "نغم وتناغم" هكذا كان يشعر الصغير (حمد) وهو في العاشرة من عمره حيث يصعد مساء كل يوم الى (سطح) منزله ليستمع بانشداد تام الى عصافير (سدرة) الجيران وهي تغني وداع يوم مليء بالسعي في فضاءات الكون قبل الهجوع الى الاعشاش فتلتقط اذناه الصغيرتان الحانها ليترجمها الى (صفير) يطلقه من فمه حتى ليبدو وكأن الموسيقى ولدت معه من رحم واحد فكبر وكبرت معه معشوقته وحين أصبح يافعاً كانت قد تمكنت من روحه ومصداقاً للحكمة التي تقول (ثلاثة يستحيل اكتسابها: موهبة الشعر، والكرم، والعندليب في الحنجرة "أي الصوت الجميل") فقد كان صغيرنا منذور للفن والطرب لا غير حيث منحه الله سبحانه وتعالى ملكة الحس الموسيقي وصوتاً عريضاً فيه (بحة) حزن وما بين ملاغاة العصافير بزقزقتها ومحاولة اتقان الايقاعات على أي شيء بدأ البحث عن آلة موسيقية تترجم هذا الاحساس ولكن أين وكيف..؟؟ طبعاً لا وجود للتلفزيون في البيوت آنذاك لهذا لم يكن الصغير (حمد) يتخيل شكل العود حتى رآه يوماً في الساحة العامة في بلدة (الخرج) مع مجموعة من الآلات الموسيقية واجهزة (الفونوغراف) والاسطوانات وهي (تحرق). صغيرنا كان يرى (العود) يتلاشى ما بين اللهب ويتحول الى رماد فيتحرق شوقاً لاحتضانه ومداعبة اوتاره ومن هذه المفارقة الحزينة ازدادت مساحة الاصرار وبدأ الحلم يكبر حتى اهتدى يوماً مع رفيق طفولته وجاره الصغير الى فكرة تصنيع (عود) محلي فوجد ان غطاء (ماكينة) الخياطة أقرب شبهاً بتجويف العود الحقيقي فصنعوا (عودهم) العجيب المكون من (وترين) فقط المهم هو اصدار النغمات والالحان، وفي يوم كان اليافع (حمد) راكباً سيارة اجرة قاصداً العاصمة الرياض وكان المحظوظ في تلك الفترة من يركب في (تاكسي) مزود بجهاز (فونوغراف) المعروف محلياً ب (البكم) وهكذا كان نصيب صاحبنا حيث استمع من خلال الاسطوانة الى اغنية يؤديها الفنان (عودة سعيد) ويصاحبه على العود الفنان الموسيقار (طارق عبدالحكيم) فانشد بذهول الى طريقة العزف وادرك انه لابد من تناغم ما بين الاوتار وهو ما عرفه لاحقاً بدوزنة الآلة او كما يسمون العملية محلياً بتأليف العود فأتقن تطويع الاوتار وبدأ شغفه بالعزف، وحيث ان فناننا الشاب يسكن مدينة الخرج المشهورة بكثرة بساتينها ووفرة مياهها وطبيعتها الخلابة فقد كان يحرص على الذهاب الى مشتل الخرج (مقصد اهالي الرياض نهاية كل اسبوع) لا لشيء إلا لمتابعة السمار وهم يهزجون بالالحان والاغاني في الهواء الطلق فيتحلق مع المعجبين بالفنانين الذين يحيون تلك الحفلات المجانية بين اشجار الورد والريحان والياسمين فتمتزج حلاوة الطرب الاصيل بعبق تلك الازهار مع طهارة قلوب الحاضرين وبراءة الوقت وضمائر الناس كل ذلك كان كفيلاً بسيطرة تلك الاجواء وانطباعها في ذاكرة الشاب الذي كبر ونشأ على الحان واصوات ذلك الجيل الاصيل مثل عودة سعيد وسالم الحويل وابو السعود الحمادي والسلوم وحجاب بن نحيت وخلف بن هذال وفهد بن سعيد وسلامة العبدالله وسعد ابراهيم وغيرهم.. في هدأة الليل يعود (حمد) الى منزله وما زالت الانغام يتردد صداها في مخيلته فيلتقط الفكرة ويبدأ في عزفها من جديد ولكن هذه المرة على عود حقيقي حصل عليه بعد معاناة شديدة وتمنع رافض من أقرب الناس اليه.. لم يكتف صاحبنا بالعزف على العود فبدأت حكاية حب اخرى مع آلة (الكمان) حيث اجاد العزف عليها سريعاً بحكم اجادته للعود وعن طريقها بدأ يدلف لعالم الفن والموسيقى ثم الشهرة الم نقل ان الصدفة قد لعبت دوراً كبيراً في مسيرة هذا الفنان الانسان..؟؟ سمع يوماً ان اذاعة الرياض بصدد تكوين فرقة موسيقية خاصة بها حيث تم الاعلان لكل من لديه موهبة بالعزف على أي آلة بالتقدم الى مقر الاذاعة (آنذاك) في شارع الفرزدق بحي الملز في العاصمة الرياض ولم يكذب صاحبنا خبراً اذ هرع الى هناك تدفعه احلام طالما راودته في ان يكون عضواً في الاسرة الفنية له حضوره واسمه كغيره من ابناء جيله من الفنانين وبالفعل قبل عضواً في الفرقة لما يملكه من ملكات التذوق والحس الموسيقي كعازف على (الكمنجة) وتكونت الفرقة يقودها آنذاك عازف الناي المشهور عبدالسلام سفر والشاعر الغنائي مسلم البرازي وحين افتتح التلفزيون كان العازف (حمد الطيار) ضمن كوكبة من العازفين يحتلون أحد الاستديوهات لتسجيل نشيد وطني بعنوان (عربي سعودي.. عربي سعودي والجزيرة بلادي) من غناء المجموعة ومن ضمنهم الفنان عبدالعزيز الراشد، كان هذا في بداية عهد الملك (فيصل) رحمه الله وهكذا حين ولج (حمد الطيار) الى عالم الفن الغنائي الحقيقي كان لابد له من اثبات الذات ومقدرته كفنان وفي يوم كان في لقاء خاص مع الفنان ابو السعود الحمادي الذي يعرف صاحبنا كعازف كمنجة فقد فتناول (حمد) العود ليعزف عليه فأجاد بشكل أذهل الحمادي فنصحه بترك آلة الكمنجة والتفرغ للعود والغناء وبالفعل كانت المحطة الاولى في عالم الغناء تسجيل اغنيتين هما باكورة الحانه وغنائه من انتاج (الاسود فون) هما (مزاجي من هوى الغالي تكدر) و (هجرتني يا حبيبي) وقد طبع من كل اسطوانة حوالي (200) نسخة فقط اما على صعيد الإعلام الرسمي فقد دخل الفنان (حمد الطيار) استوديوهات الاذاعة كمغن عن طريق برنامج البادية الذي كان يقدمه المرحوم (عبدالله العلي الزامل) من هنا انطلق صاحبنا في عالم الفن والشهرة وذاع صيته من خلال اغنية كتب هو كلماتها يعاتب صديق له سافر الى مدينة الطائف في دورة عسكرية فطلب منه الصديق شريطاً للذكرى فغنى حمد اغنيته الشهيرة (الا ياهل الطايف متى ينتهي المشوار تجو عندنا في مشتل الخرج للديرة *** ترى الذكريات كثار لكن بلا تذكار تضيع القوافي الا اختفى صاحب السيرة) بعدها تسابق أصحاب محلات تسجيلات اشرطة (الكاسيت) و(الكارترج) في اصدار البومات خاصة بهذا الفنان.
والصدفة وحدها ايضاً جمعت (حمد الطيار) كمغن مع المسرحي الشاعر والمذيع والكاتب المعروف (محمد العثيم) حيث كان هذا الاخير في زيارة صديق له في مدينة الخرج وكان الصديق هذا يسكن بجوار (حمد) فاقترح على العثيم زيارة حمد الطيار والتعرف عليه وبالفعل كان لقاءً اثمر عن تعاون فني بينهما استمر الى يومنا هذا وللحق فقد كانت نصوص العثيم مميزة وذات نهج واسلوب مختلف عن بقية النصوص (الكلاسيكية) التي كان يتغنى بها الطيار فأحدثت نقلة في مسيرة وتفكير والحان صاحبنا ومن هنا انتشرت اغنياته واسمه في أرجاء الوطن فغنى على مسارح عديدة في الخرج والرياض وعنيزة والمنطقة الشرقية ثم انتقل خليجياً الى الكويت فقطر وتمر السنون وفناننا يحظى باعجاب جماهير الفن الشعبي في المملكة والخليج حتى كل وتعب وآثر الراحة بعد اكثر من اربعين عاماً قضاها بين مفاتيح السلالم الموسيقية وانغام الطرب العربي الاصيل فأصبح يقضي الآن جل وقته مستمعاً لقياصرة الفن العربي كرياض السنباطي وأم كلثوم وعبدالوهاب وليلى مراد وفيروز ووديع الصافي وطلال مداح ومحمد عبده أليست الموسيقى هي المنطق الصادق والحقيقة الثابتة في هذا الكون.
سألت (حمد) يوماً أين أنت..؟؟ قال تعبت (يا عبدالله) كما ان الساحة الغنائية اليوم لا تشجع على التواجد والحبل أصبح متروكاً على الغارب وغث الانتاج اكثر بكثير من سمينه وصورة المطرب او المغني الآن اصبحت موطن ريبة لهذا آن لي ان ارتاح واكتفي بالتفرج على ما يدور وعند الحنين أتجاذب همي مع عودي فهو الصديق الوفي..!!!
هذا جزء من مسيرة الفنان حمد الطيار الذي اثرى مكتبة الفن الشعبي في بلادنا بأكثر من ثلاثمائة اغنية شعبية رصد بها مختلف انواع الموروث والفلكلور الشعبي مثل (السامري والحوطي والناقوز وسامري الدواسر والخبيتي والصوت الخليجي والعرضة السعودية) وغيرها من الالحان ولكن للاسف كل هذا مبعثر في اسطوانات واشرطة كاسيت لدى معجبيه وفي الاذاعة وبعض شركات الانتاج فمتى نجد محبي هذا الفنان يهبون لجمع ما تبعثر ليعاد تسجيل اغانيه وحفظها مع اغاني بقية الفنانين السعوديين في مكتبة غنائية يكون مقرها جمعية الثقافة والفنون من اجل الحفاظ على الفلكلور والفن الشعبي الاصيل.